يقول الكاتب والمفكِّر الأستاذ عبد الواحد اليحيائي في أحد مقالاته الذي عنونه «روايتي»، «بأنّ الرواية ليست هدفًا أو نتيجةً يسعى لها الكاتب بعد محاولاته القصصية، أو يقفز لها مباشرة في حال استعجل الوصول للقمة، فشرع مباشرة في كتابة الرواية دون المرور بتجربة القصة القصيرة» (انتهى كلامه).
وكان يهدف من وراء كلِّ ما سطره من عرض جميل واستشهادات رائعة ضمن ذلك المقال، إلى أنّ القصّة فنٌّ قائم بذاته، والرواية كذلك، ولا علاقة لأحدهما بالآخر، وأنّه يُعَدُّ من التسطيح بمكان اعتبار أحدهما طريقًا للآخر؛ وإن كان عرّج كثيراً على سوء الروايات السعوديّة، إجمالًا، وكثرتها دون فائدة تُذكَر. قد يكون محقًّا في رأيه إلى حدٍّ ما، إذا ما اعتبرناه يتحدّث عن الرواية الإبداعيّة التي نفتقدها بالفعل، والتي يمكن منحها هذه المنزلة من خلال قيمتها اللغويّة والبلاغيّة والأدبيّة والفكريّة، وقوّة تأثيرها في محيطها، واتّصالها بمجتمعها وأصالتها، وعمقها المثري، وجمالها الشكلي؛ لا كما ينظر إليها البعض مستندين إلى اسم كاتبها ومكانته الاجتماعية، وعدد كلماتها، ونوعيّة ورقِها، ودُور النشر التي تتبنّاها، والجوائز التي تحصّلت عليها، وعدد طبعاتها... فكلُّ ذلك سيَبلى وينتهي إلى زوال إن لم تكن الرواية قيِّمة في حمولتها السرديّة والأدبيّة والفكريّة، ولن يبقى من كلّ هذا الغثاء الروائيّ شيء، وإنّما تبقى الرواية التي تستحقّ أن تُدرَج ضمن العلامات في تاريخ السرد الروائي السعودي، وهي قلّة بالفعل.
لعلّ أجملَ ما قاله اليحيائي في سياق مقاله الذي وضع من خلاله يده على الجرح، وصفُه القصّة القصيرة تحديدًا - وأُورده هنا نصًّا - عندما قال: «هي نظرة أخرى إلى ما حولنا، نظرة مشغولة بالجمال في شكلها ومضمونها، ومحمَّلة بالهمِّ الإنساني العامّ، وهي إذ تعبِّر عن موقف ما، تُحَمِّلُ قارئها مسؤوليّةً كبيرة تدفعه إلى التغيير باتّجاه ما، اتّجاه نرجو أن يكون الأجمل سواءً على أرض الواقع أو في عوالم الخيال» (انتهى كلامه).
بالطبع، هذه الكلمات الموجزة المكثّفة تعطينا دلالةً أكيدة على قيمة الرَّجل بصفته قاصًّا، فضلًا عن قيمته النقديّة؛ وهو ما جعله لا يستعيب اقتصاره على هذا الجنس السرديّ، وعدم خوضه غمار كتابة الرواية، رغم يقينه أنّ باستطاعته طرقَ هذا الباب، والتفوُّقَ - إلى حدٍّ ما - فيه، إذ إنَّ التاريخ يروي لنا أنّ غالبيّة من كتبوا القصّة انطلقوا منها إلى الرواية، أو العكس؛ وهو بطبيعة الحال لا ينقصه شيء من احتياجات الروائيّ المتمكن، بالأخص إذا علمنا أن أيّ كاتب يستطيع تدوينها بالمواصفات الحاليّة التي أصبحت معها بعض الأعمال السرديّة السيّئة تحصد الجوائز... أقول، رغم ذلك كلّه، توقّف، ولم يجازف بالخروج من ثوبه الذي تماهى معه وأصبح كلاهما عنوانًا له، فلم يكن بحاجة للبس ثوب جديد ليس ثوبه، أو كما قال هو «عندما أجد بداخلي رواية سأكتبها»، وذلك ردًّا على من سأله باستفزاز متى تكتب رواية؟ هذا السؤال الذي سمعته في أحد الملتقيات يوجَّه للكاتب والأديب «عمر طاهر زيلع»، وكذلك للأديب والشاعر «حسن صلهبي»، وكان جوابهما بما معناه، إن استكتبَتْنا الرواية كتبناها؛ ولأنّ ذلك لم يحدث وقتها، لم يلويا عنق القلم - رغم قدرتهما على فعل ذلك - لإجباره على أمر لا يريده. كما قعد لذلك الروائي والناقد الإيطالي الراحل «أمبرتو إيكو» صاحب الرواية الأشهر عالميًّا «اسم الوردة»، في مقولته الذائعة الصيت التي يُعتدّ بها في هذا الشأن، عندما قال في وصف السرد: «أَمسِك بالموضوع وستنهال عليك الكلمات، وقال في وصف الشعر: «أَمسِك بالكلمات وسيأتيك الموضوع».
وللأسف، إنّ هذا السؤال المستهلَك نجده يتكرّر كثيرًا في كواليس الملتقيات الأدبيّة وحوارات الأدباء الجانبيّة، أو حتّى العلنيّة، في وقت أستهجنُه كثيرًا على المستوى الشخصيّ؛ فالمبدع كما هو معلوم تستدعيه موهبته ولا يبحث عنها. وقد سمعت الأستاذ حسن الصلهبي يقول في ذلك الحوار الماتع الذي أجراه في مقهى «بارادايم» بمدينة «يُنبع»، أنّه في العادة يفشل في كتابة قصيدة يتقصّدها، وأنّه لا يجيد استمطار قلمه إلّا إذا أمطر بنفسه؛ ما جعله مُقِلًّا في المشاركات الاحتفائيّة والمناسبات، بسبب عدم قدرته على ترويض حرفه وإخضاعه لإرادته الشخصيّة. فإذا كانت القصيدة تأبى على الشاعر كتابتها دون موافقتها، وقد تتعمّد خذلانه في مواقف وهو بأمسّ الحاجة لها، فكيف يكون الحال في التحوُّل بين الأجناس الأدبيّة، وتحديدًا بين القصّة والرواية؟
إعلان
ما يعنينا من ذلك كلّه، أنّ القصّة ليست التجربة السرديّة البسيطة التي نتعلّم منها كتابة الرواية، فكثير من كتّاب القصّة القصيرة المعروفين عالميًّا، لم ينجحوا في مجال الرواية، رغم خوضهم غمار الكتابة الروائيّة؛ منهم الكاتب الروسي العظيم أنطو ان تشيخوف الذي يُعَدُّ أبو القصّة القصيرة، ولم يُعرف بصفته روائيًّا، رغم نتاجه الروائيّ الكبير؛ بينما، على العكس من ذلك، عُرف ليو تولستوي وديستوفيسكي بكونهما روائيَّيْن عالميَّيْن مجدِّدَيْن، رغم نتاجهما الكبير من القصّة القصيرة.
أيضًا في العالم العربي، نجد أنّ الكاتب الكبير يوسف إدريس لُقِّبَ بـ «تشيخوف القصّة العربيّة»، ما يجعلنا نظنّه لم يكتب غيرها من أجناس السرد، بينما للرجل مجموعة كبيرة من الروايات المنشورة، لكنّها لم تلتصق به، وغاب ذكرها تمامًا؛ الشاهد هنا أنّ إدريس نجح في القصّة القصيرة، وترك بصمة لا تُنسى، خاصّة في مجموعاته الأولى، كمجموعة «أرخص ليالي»، بينما لم يكن حضوره الروائي بتلك القيمة أو بذلك الوهج. بينما نجد على الجانب الآخر روائيين عظامًا كتبوا القصّة القصيرة لكنّ التاريخ لم يحفظ لهم غير حضورهم الروائي، كنجيب محفوظ - على المستوى العربي - الذي حاول كتابة القصّة القصيرة لكنّه لم ينجح، حتّى أنّ مجموعته القصصيّة «همس الجنون» يعتبرها بعض النقّاد رواية، وغيرهم يرى أنّها مقالات متنوّعة، وقد كانت بالفعل مجموعة مقالات ذات سياق متّصل؛ ورغم جمالها ونجاحها ككتاب، إلّا أنّه لا يمكن تصنيفها كرواية أو كمجموعة قصصيّة، فكانت تقريبًا مجهولة النسب، تقع بينهما، في وقت يمكن اعتبار مصنّفَه الآخر «دنيا الله» مجموعة قصصيّة، فحكاياتها تعدّ، إلى حدٍّ ما، قصصًا قصيرة، وإن كان طولها المبالَغ فيه دفع بعض النقّاد لاعتبارها ضائعة بين رواية الـ»نوفيلا» والقصّة القصيرة بمفهومها العصريّ، وهي بالتأكيد تفتقر إلى ما يضعها في مصاف القصص الإبداعيّة، ويمكن أن نقول عنها إنّها «نوفيلا» قصيرة، فمن يقرأها يتأكّد تمامًا من أنّ كاتبها يمتلك نفَسًا روائيًّا بامتياز، ولم يستطع التخلُّص منه رغم اجتهاده في كتابة القصّة القصيرة والتفوّق فيها على أدواته الروائيّة.
ما نريد قوله في خاتمة هذا الحديث، أنَّ القصّة القصيرة فنٌّ قائم بذاته، وهو من أصعب الفنون السرديّة التي لا يجيدها إلّا قلّة من المبدعين، ينتهجون النهج نفسه الذي كُتبت به القصّة الإبداعيّة قديمًا وحديثًا؛ فقصّتا «موت موظّف» و «المغفّلة» لتشيخوف، وقصّتا «الشهادة» و»نظرة» ليوسف إدريس، تنطلق من نظريّة جمال المظهر وبساطته ووصوله إلى أكبر عدد ممكن من المتلقّين، مع احتفاظها برسالة عميقة جدًّا، تحتاج لأدوات خاصّة للوصول إليها وفهمها، وبالتالي التحدّث عنها. ذلك ما يُسقط دائمًا كلَّ من يستسهل القصّة القصيرة في «غيابة جبّها».[