نحن أمام رواية ذات رؤية عميقة عبر عنها الكاتب من خلال اختياره لساردة أنثى جعل منها مركز التبئير ، وعرض الحكاية على لسانها بوصفها بطلتها بالمفهوم الفنّي للشخصيّة الرئيسة، فهي المحور الأساس فيها ، تهيمن على السّرد وتعمل على تقديم الشخصيات من وجهة نظرها، واللافت بعد هذا كله أنه اختارها (أعني الشخصيات) من الإناث في مقابل شخصية واحدة فاعلة حاضرة من الرجال (برنار) وأخرى غائبة (قاسم)؛ وبدت الرواية مقدمة من وجهة نظر (نسويّة) بوصفها أحد تيارات ما بعد الحداثة، وهو مصطلح يطلق على مجموعة من الحركات الاجتماعية والأيديولوجية التي تهدف إلى المساواة بين الجنسين ثائرة على طريقة التعامل مع المرأة مطالبة بحقوقها في مواجهة ما كان سائداً من سيطرة الذكور وهيمنتها واضطهادها للمرأة، فهي تحارب (الجنسوية) المنحازة في صورتها النمطية التي سادت المجتمعات زمناً ليس باليسير ومرّت بعدة مراحل، لا يتسع المجال للخوض فيها .
لقد قدم الكاتب روايته في خمسة عشر فصلاً معنوناً بعناوين ذات دلالة على الرؤية في صيغة مختصرة، تليها عناوين شارحة؛ وهذا دليل على اهتمامه بالبعد الفكري في الرواية، وليست هذه هي الملاحظة الوحيدة التي تصادف القارئ منذ البداية؛ بل ما إن يسترسل القارئ في متابعة السرد حتى تستوقفه المقاطع العديدة التي يتوقف فيها الحكي لصالح التحليل والتعقيب عبر أسلوبين: الأول يتمثل في حديث النفس ورصد ما يدور في باطنها من ردود أفعال على ما تواجهه من أحداث في استبطان يغوص في خرائط الداخل وينقب في أغوارها، ويتقرّى تضاريسها ويلتقط مشاعرها وهواجسها وأحاسيسها من ناحية؛ وبيان موقفها مما يحدث من ممارسات من ناحية أخرى، والثاني البوح الصريح بما تختزنه من أفكار وما تدّخره من ثورة على التسلط الذكوري على المرأة ممثلاً في شخصية أخيها (قاسم) الذي استولى على جُلّ حقّها في الميراث، وقد عبّرت عن ذلك بصراحة ووضوح، وأدانت صمت أمّها على غمط ابنها لحقّ شقيقته بوصفها ممثلّة لجيل من النساء اللواتي خضعن للذكورة وهيمنتها، فكان الارتحال عن المكان وهجره برُمّته إلى سويسرا وريفها وطبيعتها الجميلة التي تجتذب الفنانين وعشّاق الرسم، وقد بدا واضحا أن الكاتب حرص على إغفال ذكر اسمها؛ ولعله كان يريد من ذلك تقديمها بوصفها تمثّل المرأة التي تنتمي إلى شريحة اجتماعية و بصفتها الأنثوية العامة، واختار هذا البلد الأوروبي ساحة للأحداث الروائية بوصفها ممثلة للثقافة الغربية التي تنصف المرأة وتمنحها حريتها؛ ولكنها في الوقت ذاته تبالغ في نظرتها الطبقية والتراتبيّة الاجتماعية، وهذا يمثل تيارا آخر في الحركة النسوية يقوم على محاربة الاستعلاء الطبقي والعرقي في نمط آخر من أنماط الجنسوية الثائرة على ذلك اللون من ألوان الاضطهاد ضمن الاتجاه السائد في ثقافة (ما بعد الكولونيالية) وقد اتضح ذلك في تعامل (مارغريت) صاحبة النُّزُل الذي كانت تقيم فيه الساردة مع العاملة العجوز (الكسندرا) حيث حرص الكاتب على وصفها على لسان الساردة وصفا دقيقا ينسجم مع اهتماماتها الفنية بوصفها فنانة مولعة برسم (البورتريهات) ويبدو أن الكاتب اختارها على هذا النحو (رسّامة) لتكون مؤهلة للتفاعل مع جمال البيئة والتقاط ما يدور فيها بحساسية مرهفة، و قد تعمد الكاتب أن تكون البيئة الأجنبية بحضورها الكثيف، بوصفها فضاءً ممتدا للحدث الروائي ليضعها في مقابل البيئة المحلية الغائبة التي تتمثل فيها الذكورة حيث هيمن شقيقها قاسم على الثروة وصمت الأم عن ذلك ، في حين كانت الهيمنة في البيئة الأجنبية في سويسرا للأنثى الأم التي تحكّمت في ابنها الذي يمثل الذكورة القاهرة ونحّته جانباً وجعلت من نظيرا له مكرّسة الرؤية النسوية للرجل على الرغم من الصورة الجميلة والمعاملة الراقية التي أبداها في علاقتها معه؛ ولكنها ظلت تحسّ بارتيابها من سلوكه رغم تعلقها به، وهذا يؤكد المنطلق النسوي في النظر إلى الرجل، فالتقابل في الفضاءات ينسجم مع رؤية الكاتب؛ فضلاً عن الرمز الذي اختاره ممثلا في الدمية في تمثيلها لوضع الأنثى.
في الفصل الأول المعنون (السر – بعض الأشياء أكبر مما نتخيّل وأعمق مما نظن) مدخل أو استهلال يحدد ملامح البنية السردية من حيث الغموض الذي يكتنف الساردة التي لم يذكر اسماً لها، ويقدمها على أنها سيدة محافظة في ملبسها متحرّرة في فكرها، غامضة في هويتها، تسلط الضوء على المكان الذي تقيم فيه في الريف السويسري، وصفها له يبدو وصفا تفصيلياً، تؤكد فيه على ملامح العتاقة والفخامة وكأنها في ولعها بجمال الطبيعة جزء منها، فالتركيز على ملامحها الخارجية والداخلية تقدم لوحة ناطقة تحيط بكل ملامحها ظاهرة وباطنة، وتركّز في حديثها على البوح بمكنوناتها عبر الحوار الداخلي وحديث النفس مفصحةً عن الجانب الرئيس في شخصيتها بوصفها فنانة، وتحاول أن تجعل من العاملة العجوز في الفندق مرآة لهواجسها وخواطرها فتعكس ملامحها النفسية وتستكشف أغوارها وتتعامل معها بوصفها رسّامة أيضا، وتغلو في وصف تفاصيل جسدها وقسماتها كما لو أنها تقوم بمسح ضوئي لها، كما تبالغ في وصف المكان الذي اقتادتها إليه لتريها لوحاتها وكأنما الطريق إليها إبحار في باطن شخصيتها وشخصية المرأة المرآة التي تعكس ملامحها الداخلية عبر شِقّي الحوار الخارجي معها حول لوحاتها والداخلي في رصد انطباعاتها و هواجسها و مخاوفها.
وفي الفصل الموسوم ب(واقعية الخيال – خيط واحد يفصلنا هو الخيال) استقراء للذات وارتحال إلى دواخلها والحوار معها وإبرازها بوصفها أنثى تمثل النساء اللواتي يخضن معركة مع التحديات التي يواجهنها مع المجتمع خصماً تعتزله بالارتحال عنه ومفارقته، وفي صراع مع الوحدة والهواجس والمخاوف والنوازل، وفي مرافعة قوية ضدّ الرجل الذي يستقوي على المرأة وينكّل بها متسلّحةً بثقتها بنفسها وبفضاء الحرية الشاسع المتاح لها، واعتمادها على النفس وما وفّرته لها التكنولوجيا الحديثة من وسائل ممثلاً في الجهاز ( (GARMIN الذي يهديها إلى حيث الاستمتاع بجمال شلالات (الجيس باغ) و السيارة الفارهة التي تقودها ، وقد جعلت من المرأة العاملة كائناً رديفا يشعرها بذاتها ويراكم الإحساس بها لديها ، تتخذ منها رمزاً ولغزاً تسعى إلى فكّ طلاسمه، تقدم - من خلالها - نموذج المرأة المضطهدة في اعتمادها على الذات وصمودها في وجه الملمات، فهي المرآة التي ترى فيها نفسها وصمودها وكفاحها ضد الظروف المحيطة بها .
استدعاء شخصية الأم بملامحها النموذجية بوصفها تمثل جيلاً من النساء اللواتي يتمتعن بالحكمة والنظرة الثاقبة للأمور ، ولعل مشهد الحوار مع الشاب ( برنارد) كان يمثل الاحتكاك المباشر مع الرجل بوصفه ممثلاً للذكورة في مقابل الأنوثة التي تفتحت وردة بعد أن تحرّرت من أكمامها في ثورة مباغتة على القيود التي صفّدتها زمناً، توازي ذلك الظلم الذكوري الذي مثله أخوها (قاسم) في مساومته الرخيصة على حرّيتها وتفريطه في مبادئه من أجل الاستيلاء على الميراث في مقايضة دنيئة، كما كانت (الكسندرا) مرآة للساردة وبرنارد مقابلا لقاسم من جهة و متمما لموقفه من المرأة من جهة أخرى، وفي مقابل جمال المرأة كان جمال الطبيعة ومعياراً للثقافة السائدة في الشرق في مقابل ثقافة الغرب، بدت الأمور وكأنها تنهض على المفارقة بين الحرية والمال وجمال الطبيعة و جمال المرأة .
وظلت الدمية التي تحتفظ بها العاملة العجوز في صندوقها الأسود محور التفكير لدى الفتاة الساردة، ومجلبة للكوابيس والأحلام ومناط الأوهام، الحوارات الداخلية حول العوالم السفلية والجان وما إلى ذلك، حوار بين (مارغريت) والساردة والفنان بين التسيير والتخيير والعقل الباطن والرواسب المذخورة. وظل الهروب إلى قمة الجبل واللقاء مع برنارد، و الخواطر والصراع والاستسلام والتبرير، والاستعراض والمقارنة، والقناعة والشك، واسترجاع للماضي والثقافة السائدة المحافظة الزائفة التي تنتهك حقوق المرأة و التحرر منها ، والهروب من شرك الذكورة المهيمنة والوقوع في شراكها، والمصادفة والتخطيط، كل ذلك في لحظات تشتعل دراميا بالتصور والتوقع والحدوث، كل هذه الخواطر تحتل مساحة واسعة في الخطاب السردي وتستوقفه في تأملات يستغرقها الحديث عما يعتمل في الداخل تبوح به في استكشاف دائم لعقلها الباطن.
الدمية هي البؤرة المركزية في الرواية محور الهواجس و الأحلام والكوابيس والرغبة الكامنة وراء اللقاءات والزيارات والحوارات الداخلية، وردود الأفعال على أحاديث الكسندرا ومارغريت و برنار، والساردة جعلت كل همها البحث عن سرّها الذي اعتقدت أنها كانت ضحية مغدورة ، وتبين في نهاية المطاف أنها ترمز إلى ما تمثله المرأة - كما تصورها الرجل - دمية يتسلّى بها ظلت في حمايتها محافظة عليها، وكانت الساردة المرأة التي هجرت قيودها وتحرّرت منها حين خلعت حجابها تسعى وراء سرّ مقتلها في مفارقة فنية بالغة الثراء.
هذه الرواية من الروايات المهمة التي تستحق الدراسة؛ فهي علامة بارزة في سياق الرواية العربية في المملكة العربية السعودية برؤيتها ومفارقاتها وبنيتها السردية ولغتها الأنيقة الرشيقة.